تاريخ-تقاليد


كلمة الشهيد زيروت يوسف لقرى الشمال القسنطيني.
قبل إنطلاقة ثورة التحرير المباركة زار الشهيد البطل زيروت يوسف قرى جبال الشمال القسنطيني تحضيرا لحرب التحرير في المنطقة,وفي قرية بوالسبع الجميلة إلتقى بالمواطنين وخطب فيهم قائلا إننا مقبلون على عمل  شاق وكبير وستكون هناك خسائر وتضحيات كبيرة,لكن تيقنوا أننا سننتصر إن شاء الله وعلى كل حال فمن أراد أن يأكل عسلا فلابذ أن يكون متوقعا ومستعدا للسعات النحل!
فهم المواطنون كلمة الشهيد وعرفوا ماهم مقبلون عليه وبعد أيام جاء المسؤولون إلى مقهى دشرة أولاد مسعودة ونصبوا مجاهدا إسمه طيار وقالوا له أنت تطير فرنسا أي ستطردها شر طردة ونصب كمسؤول مدني,ثم سألوا الشباب الراغب في التجنيد العسكري فقام الشهيد الشاب عمار بوالطين وتبعه آخرون ولم يمضي وقتا طويلا حتى جند معه العشرات وأنطلق جهاد التحرير في المنطقة.
ومرت الشهور والسنوات وأحتضن سكان المنطقة الثورة بحرارة وبإيمان بالنصر كبير,تحملوا كل المخاطر وعملوا جماعيا في صفوف الثورة,كل حسب إستطاعته,فكلهم مجاهدون وكلهم تعرضوا للضرب وللقتل وللإعتقال والسجن,لقد إستشهد الأطفال والنساء في غارات جوية وأستشهد الرجال في المعارك والكمائن وتحت التعذيب,تعرضت بيوتهم للحرق وسيقوا إلى المحتشذات أو أجبروا على السكن في الغابات.

 

من كتاب تاريخ
منطقة جيجل قديما و حديثا ـ علي خنوف
ثورة ابن الأحرش
في بداية القرن
التاسع عشر و قبل الغزو الفرنسي بأقل من ثلاثين سنة اندلعت ثورة بأتم معنى الكلمة
في منطقة جيجل ضد النظام العثماني، و هي ثورة ابن الأحرش التي بدأت بذورها في
الأعراش المحيطة بالمدينة مثل بني قايد و بني أحمد و بني عمران و أولاد بلعفو، ثم
امتدت شرقا و تمركزت في وادي زهور النائية جنوب الميلية ما بين سنوات 1801 – 1805.
و أهم مصدر يمكن الإعتماد عليه هو البحث الذي نشره الدكتور صالح سعيدوني في مجلة
الثقافة سنة 1983م الذي لخص فيه أسباب و عوامل تلك الثورة في عاملين أساسيين هما:
شخصية ابن الأحرش الجذابة الغامضة التي لعبت دورا رئيسيا في تحريك أ‘راش المنطقة و
استعدادهم لذلك، لأنهم يثقون في كل غريب يحط عصا الترحال في وسطهم و يقبلون أفكاره
حتى لو كانت متطرفة، فيندفعون وراءه و يناصرونه دون فحص أو تدقيق فيما يدعيه أو في
عواقبها.

شخصية ابن الأحرش

إن شخصية ابن الأحرش تذكرنا بشخصية ابن عبد الله الشيعي الثي
استطاع في القرن الثالث الهجري أن يؤسس الدولة الفاطمية جنوب منطقة جيجل بعدما نجح
في استقطاب العشائر الكتامية الموزعة في المثلث سطيف، شلغوم العيد، جيجل، تحت شعار
دعوة دينية من أجل هدف سياسي. و هو نفس ما فعله ابن الأحرش مع القبائل المحيطة
بمدينة جيجل و الموزعة شرقها، فقد استعمل كل الوسائل لإقناع الناس بالإلتفاف حوله،
فادعى بأنه الإمام المنتظر و بأنّه صاحب الوقت. و قد استعمل بعض الحيل، إذ أوعز في
إحدى المرات إلأى أحد أتباعه المخلصين أن يمكث في قبر أعدّه خصّيصا لذلك، و أن
يخاطب الناس مؤكدا لهم بأن الوقت قد حان للقضاء على حكم الترك. و هذا ما أكدّه
الكتاب المعاصرون له أو القريبون من عصره، منهم على سبيل المثال الزياني حيث يقول:”
إنّ الناس رأوا العجائب من ابن الأحرش، و أظهر لهم من الأمور غرائب تقلب العين لا
حقيقة لها دون مبين”. و كذلك الشيخ أحمد المبارك، إذ يقول” إنه قد أظهر للقبائل
أمورا يزعم بأن بارودهم يتكلّمو بارود أهل قسنطينة يرجع ماء في مكاحلهم، و غرّهم
بمثل هذا الكلام”، و هذا ما يصفه به أعداءه في كتاب المدن.

و يظهر من
كلامهم بأنّهم يعبرون عن رأي السلطة الحاكمة، و لذلك تبقى الحقيقة غامضة ما دمنا لا
نجد من أنصاره من رجال المنطقة من كتب عنه خيرا أو شرّا. و قد استطاع أن يجنّد
قبائل الشمال القسنطيني كلّها لمحاربة حكم الترك، و اشتهر بينهم بلبودالي نسبة إلى
أدبال الصالحين و بالشريف المغربي،و لا يعني قطعا أنه من تلك البلاد، فقد جرت
العادة في العهد الإسلامي أن كل غريب يدعي النسب للشرفاء، و غالبا ما ينسب نفسه
للساقية الحمراءأو ناحية السوس جنوب المغرب.

أمّا السبب الثاني لثورة ابن
الأحرش فهو إستعداد قبائل منطقة جيجل و تقبلهم لكل غريب، كما تمّت الإشارة الإشارة
إليه سابقا، و على الأخص في أواخر العهد العثماني، إذ أصبح الفرق واضحا بين سكان
المدن و سكان الريف بصفة عامة في جميع مجالات الحياة الإقتصادية و الإجتماعية و
الفكرية، إذ كان سكان المدن يعتبرون سكان الريف بدويين و متأخرين حضاريا، و لذلك
يتعاملون معهم بترفّع. و كان بايات قسنطينة ينتقمون من القبائل التي ترفض دفع أنواع
الضرائب بسجن أو قتل أبناء تلك القبائل الموجودين داخل المدينة، كما كان سكان الريف
يعتبرون سكان المدن منحلين أخلاقيا و دينيا، و لذلك يجب تأديبهم. بالإضافة إلى
التصرفات الجائرة التي كان يقوم بها بايات الشرق و الغرب أثناء استخلاص أنواع
الضرائب بواسطة الحملات العسكرية لجمعها بالقوة أو لمعاقبة الممتنعين عن دفعها.

ففي الوقت الذي كان فيه ابن الأحرش يقوم بدعوته و يروّج لها في أوساط قبائل
ناحية جيجل سنة 1802م كان باي قسنطينة الحاج مصطفى أنغلير يقوم بقمع قبائل الحنانشة
و النمامشة، و يصادر قطعان ماشيتهم، و كانت تلك الأخبار المتعلقة بعملية القمع تصل
بانتظام إلى ابن الأحرش، و كان يستغلها في دعايته ضدّ حكم الترك، و هو نفس ما وقع
سنة 1804م، فعندما قام ابن الأحرش بمهاجمة قسنطينة عاصمة الباي عصمان، كان هذا
الأخير في نواحي المسيلة يقوم بحملاته القمعية لجمع الضرائب، بالإضافة إلى معاداة
بعض شيوخ الزوايا، لأن دايات أواخر العهد العثماني أصبحوا يتجاهلون المرابطين و
شيوخ الزوايا، و أصبحوا يعتمدون أكثر على الأجواد و العائلات الإقطاعية في إدارة
القبائل الريفية مثل عائلتي بن عاشور و بن عز الدين جنوب منطقة جيجل، في الوقت الذي
جرّدوا فيه بعض العائلات المرابطية من الإمتيازات القديمة، كالإعفاء من دفع
الضرائب، و حرموهم من العطايا، و هذا ما فعلوه مع المرابط عبد الله بن محمد الزبوجي
مقد الطريقة الرحمانية برجاص قرب ميلة.

هذه أهم الأسباب الداخلية، أما
الأسباب الخارجية التي ساعدت ابن الأحرش على تنظيم ثورته فأهمها التنافس الشديد
الذي كان قائما بين فرنسا و انكلترا على اكتساب مناطق النفوذ و نيل المزيد من
الإمتيازات في أراضي الإمبراطورية العثمانية، و من جملتها الجزائر، لأنه في الوقت
الذي حاول فيه الإنكليز محاصرة فرنسا في الحرب النابوليونية، كان دايات الجزائر
يمدونها بالحبوب، و كذلك في الوقت الذي اندلعت فيه الحرب بين إنكلترا و فرنسا سنة
1802م، عقد الداي مصطفى باشا بالجزائر معاهدة صداقة مع القنصل الفرنسي دوبواتانيل،
و لهذا يتهم المؤرخون الفرنسيون إنكلترا بأنها هي التي دفعت ابن الأحرش إلى الثورة
ضدّ دايات الجزائر مستدلّين على ذلك بنقله هو و من معه من الحجاج الذين قادهم في
مساعدة المصريين على إخراج جيوش نابليون من بلادهم، كما نسّقوا بينه و بين باي تونس
حمودة باشا، إذ أنزلوه في تونس عندما كان عائدا من مصر على ظهور سفنهم، فاستقبله
الباي و وعده بتقديم العون له إذ قام بحركة ضدّ حكم الترك.
و في الصدد يقول
شريف الزهار:”استدعى(أي البباي) ابن الأحرش و وسوس له قائلا: إن رجلا مثلك شجاعا
يجب أن يذهب إلى حكم الترك بالجزائر و ينتزعه من أيديهم، و نحن نمدّك بما يخصّك، و
العرب يتبعونك لكثرة ما ظلمهم الأتراك” ثم عقب الزهار على ذلك بقوله:” و كان قصد
حمودة باشا أن يشغلهم عنه”.

ابن
الأحرش في منطقة جيجل

هذه هي الأسباب الداخلية و الظروف
الخارجية التي ساعدت ابن الأحرش على انتفاضته أو ثورته ضدّ حكم الترك بالجزائر. و
هكذا بعد الوعود بالدعم المادي و المعنوي من باي تونس و الإنكليز الذين نقلوه على
ظهر سفنهم من تونس إلى عنابة و سلّحوه ببندقية حديثة الصنع ذات الطلقات الثلاث. و
بعد انزاله في عنابة انتقل في ظروف غامضة إلى قسنطينة فبقي هناك يدرس الأوضاع
العامة لبايلك الشرق. ثم انتقل إلى مدينة جيجل. و للأسف لم يذكر أحد من المؤرخين
لماذا إختار منطقة جيجل لنشر دعوته الثورية السرّية ثم العلنية، و لكن حسب تسلسل
الأحداث و نفسية رجال المنطقة المثالية التي ترفض كلّ انحراف له علاقة بالسلطة سواء
أكانت أجنبية مستعمرة أو محليّة مستبدّة، نرجح أن ابن الأحرش عرف هذه الميزة من
حجاج المنطقة الذين رافقوه أثناء إمارته على قافلة الحج التي انطلقت من المغرب
أواخر سنة 1800م، و لا شك أنهم تطوّعوا إلى جانبه في قتال الجيش الفرنسي بمصر. و
أنّهم هم من شجّعوا ابن الأحرش على الإتجاه لمنطقتهم، لأنه لا يمكن لغريب أن يتجه
إلى منطقة معروفة بتعقيد تضاريسها إلا إذا كان مرفوقا بأبنائها الذين يعرفون
مسالكها الوعرة.

و هكذا ففي سنة 1802م وصل ابن الأحرش إلى مدينة جيجل و بدأ
في نشر دعوته السرية بين القبائل المحيطة بمدينة جيجل مثل بني قايد و بني احمد و
بني عمران و اولاد بلعفوا و العوانة ….إلخ.
و خوفا من رجال السلطة في مدينة
جيجل خرج إلى زاوية ابن الزيتوني، و شرع في توعية الناس بأسلوب جديد و بفصاحة غير
معهودة، مبرزا مظالم الحكام الأتراك و خلفائهم في الأرياف الذين جعلوا هدفهم
الأساسي جمع الضرائب بطرق وحشية ضاربا لهم أمثلة بما يجري في النمامشة و الحنانشة
بشرق البلاد. و مما زاده شهرة سعة أفقه و شجاعته و قدرته على الإقناع، كما عرف هو
نفسية البسطاء من سكان الريف بصفة عامة و سكان منطقة جيجل بصفة خاصة، فاستطاع
توجيههم لخدمة أهدافه و اكتسب بذلك أتباعا مخلصين داخل المدينة و خارجها. و بعدما
نجح في تهيئتهم للثورة قادهم لاحتلال مدينة جيجل، و قبل وصولهم إلى ثكنة الحامية
التركية التي لا يتجاوز عدد أفرادها ثمانين جنديا انسحبت الحامية من دون قتال عن
طريق البحر و أصبحت المدينة و القبائل المحيطة بها في أيدي أنصار ابن الأحرش أواخر
سنة 1802م. و مما زاده قوة فرار ضابط مدفعية ممتاز من خدمة الداي بمدينة الجزائر
يدعى بن دونالي و انضمامه إلى أنصاره. و بعد هذا النجاح عين ابن الأحرش حاكما يدعى
ابن حمدوش على المدينة و المنطقة المحيطة بها من بني قايد، و أمره بجمع الضرائب.

بعدما استتبت له الأوضاع في مدينة جيجل و ضواحيها انتقل في ظروف غامضة إلى
ما كان يعرف بالجراح قرب وادي زهور في وسط قبيلة بني فرقان، و بنى هناك قرية
للإستقرار فيها هو و أقرب المخلصين له، كما بنى معهدا لتعليم الصبيان، و بسرعة
انتشرت أخباره و انضمت إليه كل القبائل الواقعة شرق مدينة جيجل مثل بني حبيبي و بني
بلعيد و بني مسلم و أولاد عواط و أولاد عيدون و بني خطاب، بالإضافة إلى القبائل
الأخرى مثل بني معزوز و بني عيشة و بني فتح و أولاد أعطية و بني توفوت.
و نتيجة
لهذا الإمتداد الثوري انسحبت الحاميات التركية من الساحل الشرقي كله الممتد من جيجل
إلى عنابة، و مما زاد قوة و نفوذ ابن الأحرش استلاؤه سنة 1803م على السفن الفرنسية
العاملة في صيد المرجان التابعة لشركة القالة التي تحتكر صيده في المنطقة البحرية
الممتدة من القالة إلى بجاية.
و يقول أحد المؤرخين الفرنسيين بأنه استولى على
سفن، و نهب كل ما تحمله من مرجان و أسلحة و مؤن و غيرها، كما أسر أكثر من أربعين من
بحارتها، و هنا تحرك الداي و أمر الرئيس حميدو بالتوجه إلى جيجل لإلقاء القبض على
ابن الأحرش و معاقبة مناصريه.
و قد توجه فعلا هذا الأخير يقود أربع سفن حربية و
عندما وصل إلى ميناء جيجل طلب من سكانها تسليم ابن الأحرش و ضابط المدفعية بن
دوناليو إلا قنبل مدينتهم، فردّوا عليه بإطلاق المدافع على سفنه ، فردّ عليهم بدوره
ببعض القنابل ثم انسحب بعدما عرف استحالة إلقاء القبض على ابن الأحرش، و هذا ما زاد
ابن الأحرش و أنصاره تصميما على مواصلة الثورة و الإستعداد لما هو أكبر، و هو
الهجوم على مدينة قسنطينة عاصمة بايلك الشرق.

هجومه على مدينة قسنطينة
بعد نجاح ابن
الأحرش في إخضاع الساحل الشرقي كلّه الممتد من جيجل إلى عنابة أمر أتباعه بالتوجه
للإستلاء على قسنطينة عاصمة الباي. ففي حوالي 10 جوان 1804م بدأ رجال القبائل في
التجمع في نواحي القرارم استجابة لدعوة ابن الأحرش. و تختلف المصادر التاريخية في
عددهم، فالعنتري يقدرهم بعشرة ألاف مقاتل، و لكنه يصفهم بالجراد المنتشر، و المؤرخ
الفرنسي فايسات fayssette يقدرهم بستين ألفا. و يعلق الدكتور ناصر الدين سعيدوني
على هذا التضارب في تحديد عدد المقاتلين بقوله ” و إن كنا نرى في هذا القول مبالغة،
نظرا للأوضاع الديموغرافية لتلك الجهة” ، و لذلك فعددهم المعقول هو ما بين خمسة عشر
ألفا و عشرين ألفا.

و في 19 جويلية تم جمعهم في المكان المحدد لهم سابقا و
ألقى عليهم ابن الأحرش خطابا حماسيا و أمرهم بالسير نحوى قسنطينة، و في اليوم
الموالي وصلت طلائعهم إلى الضاحية الغربية للمدينة بالمكان المعروف بسيدي أحمد
الغراب، فتصدى لهم قائد الدار الحاج أحمد بن الأبيض، خليفة الباي الباي على رأس
مجموعة من فرسان المدينة، فوقعت مناوشات حادة بالمدينة و الواد المالح، و عندما
ازاد ضغط المهاجمين لكثرة عددهم تراجع ابن الأبيض و فرسانه ليحتموا بأسوار المدينة،
فواصل المهاجمون زحفهم فاحتلوا أطراف المدينة مثل الكدية و باردو، و كادوا يقتحمون
المدينة لو لا حدوث الفوضى و الاضطراب لإنشغالهم بسلب اسطبلات الباي و الفنادق و
منازل العمال.

و في هذه الظروف نظم سكان المدينة المقاومة بقيادة ابن
الفقون و قصفوا المهاجمين بالمدافع فتراجع الكثير منهم، و هذا ما سمح لابن الأبيض
قائد الدار أن يخرج لمقاتلتهم، و في نفس الوقت وصل شيخ فرجيوة مصطفى بن عاشور على
رأس فرسانه لتدعيم أهل المدينة. و قد تمكنت هاتان القوتان من ارغام رجال ابن الأحرش
على التقهقر بعدما تكبدوا خسائر كبيرة، و لكن ابن الأحرش لم ييأس من هذه النتيجة
السيئة، بل أمر أتباعه في الغذ من العودة إلى مهاجمة المدينة، و حاول أن يتسلل مع
بعض أتباعه إلى دداخلها. و لكنه أصيب بجروح خطيرة في رجله، فحمله أنصاره بسرعة و
أسرعوا به إلى بني فرقان للمعالجة، و حينذاك تراجع المهاجمون بعد سماعهم بجروح
زعيمهم و عودته إلى وادي زهور. و يصادف ذلك التقهقر عودة الباي عصمان من نواحي
المسيلة بعدما كان يجمع الضرائب، و تمكن فرسانه من اللحاق بالمتقهقرين في مكان يعرف
ببوقصيبة على وادي القطن بشمال غرب ميلة، فقتلوا منهم حوالي سبعين رجلا و ثلاثة
نصارى من الأسرى الفرنسيين الذين وقعوا في يد ابن الأحرش اثناء استلائه على سفن صيد
المرجان. و بهذه الهزيمة ينتهي الفصل الأول من ثورة ابن الأحرش ضد حكم الترك أما
الفصل الثاني فكانت نتائجه قاسية بالنسبة لبايلك الشرق، إذ قتل فيه الباي عصمان
بأولاد عواط قرب الميلية .

مقتل
الباي عصمان على أيدي أنصار ابن الأحرش

لقد أشرت سابقا إلى
عودة الباي عصمان و حملته الفصلية التي كان يجمع بها الضرائب بعدما سمع بهجوم ابن
الأحرش على عاصمته، و بعد استراحة قصيرة بدأ يستعد لملاحقته في معقله بوادي زهور، و
على الأخص بعد وصول أمرية داي الجزائر شديدة اللهجة ( رأسك أو رأس ابن الأحرش) يحثه
فيها على معاقبة الثائرين و بالقضاء على ابن الأحرش.
و في بداية أوث 1804م خرج
من مدينة قسنطينة متوجها ناحية وادي زهور على رأس قوة عسكرية هامة، و اتخذ الطريق
الذي يوازي من الناحية الشرقية طريق اليوم الرابط بين قسنطينة و الميلية. و قد قسمت
حملة الباي (القافلة) المرحلة بين قسنطينة و وادي زهور إلى أربع محطات. ففي اليوم
الأول عسكر بعرش معاوية قرب تاديست شرق القرارم، و في اليوم الثاني ببني صبيح شمال
غربها، و في اليوم الرابع بعرش العشايش شرق الميلية، و في اليوم الرابع اخترقوا عرش
أولاد عيدون. و قام الباي بتحركات عسكرية قصد تخويف السكان و إشعارهم بقوة و هيبة
البايلك. و هناك تختلف الروايات حول الطريقة التي قتل فيها الباي، و كذلك المكان
التي قتل فيه لأنها متضاربة، و لكن عند مقارنتها يستطيع الباحث أن يخرج بخلاصة ربما
تكون قريبة من الحقيقة، و هي صعوبة المنطقة، لأنها غابية جبلية ذات شعاب عميقة،

فهي غير صالحة لسير الحملات العسكرية، و لذلك سهل على القبائل التي مازالت
تناصر ابن الأحرش رغم النكسات التي حلت بها أثناء مهاجمة مدينة قسنطينة، إذ استعملت
الكمائن المحكمة، و ربما استعملت بعض الحيل لجر الباي عصمان و محلته إليها فقضت
عليه و على أغلب عناصر محلته. و حسب الروايات المتضاربة و كذلك حول المكان الذي سقط
فيه البايعصمان، فقد بكون وسط عرش أولاد عواط، لأنه يقع بين الميلية و وادي زهور،
بالإضافة إلى عثور الفرنسيين على قبر سنة 1853م بالعرابة، و هي عشيرة من عشائر
أولاد عواط الواقعة على الطريق الرابط بين الميلية و جيجل، شرق العنصر التي تبعد
عنه بحوالي ثلاثة كيلو مترات.

المرحلة الأخيرة من ثورة ابن الأحرش

بعد هذه الأحداث التي انتهت بالقضاء على الباي عصمان، تبدأ
المرحلة الأخيرة من ثورة ابن الأحرش و أعراش منطقة جيجل، فعلى الرغم من النجاح
الظاهر لهذه الثورة إلا أن تصميم السلطة المركزية في الجزائر، التي كان على رأسها
الرجل القوي مصطفى باشا ، قلب الأوضاع رأسا على عقب. و قد تجلى هذا التصميم منذ
البداية في إسراع الداي مصطفى باشا بتعيين باي جديد على قسنطينة هو عبد الله ين
اسماعيل قائد وطن الخشنة خلفا للباي المقتول، و أمده بجيش مدرب تدريبا عاليا في
قتال القبائل الثائرة، و أمره بملاحقة ابن الأحرش أينما كان، و بسرعة وصل إلى
قسنطينة و بدأ ملاحقته بحادثة طريفة رواها شارل فيرو و هي إرسال هدية ملغمة، و
لكنها لم تصل إليه. و بعد فشل تلك المحاولة بقي يترصده بواسطة جواسيسه.

و
في أواخر أكتوبر سنة 1804م وصلته معلومات بوجود ابن الأحرش جنوب غرب ميلة رفقة
مرابط رجاص الزبوشي الذي شجعه سابقا على مهاجمة قسنطينة، فخرج إليهما.
و قد
تمكن من هزيمتهما و تبديد أنصارهما، فزالت هيبة ابن الأحرش من أعين الناس و أعيدت
الروح المعنوية للعائلات التقليدية حليفة البايات مثل ابن عاشور في فرجيوة و ابن عز
الدين في زواغة و المقراني في مدينة جيجلالتي كان بعضها قد إلتزم الصمت خوفا من
تيار ابن الأحرش الجارف، و بعضها انغمس معه مثل مولاي الشقفة، لكن بعد تلك الهزيمة
اتضحت لهم الرؤى و تأكدوا من نهاية ابن الأحرش، و لذلك سارعوا إلى الإنظمام إلأى
جانب الباي عبد الله لمطاردة ابن الأحرش و لكنه لم يترك لهم الفرصة، لأنه عرف
بدهائه بأنه انتهى دوره في منطقة جيجل الشرقية، و لذلك إختفى نهائيا.

و
هناك تضارب في روايات المؤرخيين عن مصيره، و هذا لا يهمنا لأنه خارج نطاق بحثنا،
أما الذي يهمنا فهي الأثار السلبية التي انعكست على المنطقة بعد فشل انتفاضته، لأن
الوعود التي وعد بها أ‘راش المنطقة لم يتحقق منها شيئ، بل عادت عليهم عكس ذلك. إذ
عمّ البؤس و الشقاء و المجاعة، بسبب أن الحروب و الفوضى منعت الناس من الحرث،
بالإضافة إلى إيمانهم القوي بالغيبيات، فقد اعتقدوا بأن الله عاقبهم على عصيانهم، و
لذلك بدؤوا يشكون في قداسة ابن الأحرش، فأدرك هو ذلك و اختفى من منطقتهم. و ربما
هذا ما دفع أعيان مدينة جيجل و ضواحيها إلى الإجتماع و قرروا فيه بعث وفد إلى مدينة
الجزائرليطلبوا من الداي أحمد باشا العفو و الغفران على ما قاموا به من عصيان، و
توجه الوفد فعلا في نهاية سنة 1805م إلى مدينة الجزائر برئاسة الشاب سيدي محمد
أمقران، فاستقبل الداي الوفد بحفاوة بالغة و مكث أعضاءه أياما في ضيافته، ثم أمر
الرئيس حميدو بإعادتهم إلى مدينتهم عن طريق البح، كما عيّن فرقة عسكرية متكونة من
أربعين جنديا لمرافقتهم إلى جيجل، لتخلف الحامية التي انسحبت سنة 1803م أثناء ثورة
ابن الأحرش، و بذلك عادت الأمور إلى مجراها الطبيعي و ساد الهدوء جميع أنحاء
المنطقة.

ظهور ابن أخ ابن الأحرش

بعد ثلاث سنوات من الأمن و الاستقرار الذي عمّ المنطقة كلّها،
ظهرت شائعة في الأعراش المحيطة بمدينة جيجل بأن شخصا غريبا يدعى ابن أخ ابن الأحرش،
قد ظهر أولا في عرش بني عمران شرق المدينة، و هكذا فرغم البؤس و الشقاءو المجاعة
التي عمّت المنطقة مدة أربع سنوات، إلا أن بعض أعراش المنطقة لم تتعظ بما حلّ بها،
فما تزال تؤمن بكرامات ابن الأحرش الذي اختفى عن المنطقة، لذلك سارعت إلى رأيته. و
للتأكد من صحة ما يدعيه، طلبت منه الذهاب إلى المرابط مولا الشقفة شيخ عرش بني يدر
للتأكد من صحة ما يدعيه. و يبدوا أن شيخ بني يدر زكاه بعد مساءلته، و في الحين طلبت
منه تلك العشائر احتلال المدينة مثلما فعل عمه سنة 1803م، و لكنه رفض بحجة أن
الأمور الكبيرة لم يحن وقتها بعد، ونتيجة لذلك بدأت الشكوك تدور حول مصداقيته و
مهمته المقدسة. و بدأت تدور عليه الدائرة، إذ إقترحت قبيلة أولاد بلعفو على العشائر
التي مازالت مترددة في شأنه تسليمه إلى الحامية العسكرية بجيجل، و عندما سمع بما
يدور في الأعراش و العشائر القريبة من مدينة جيجل و أنهم يتشاورون في أمر تسليمه
إلى الحامية التركية، فرّ إلى غابات بني عيشة جنوب العنصر، و اختفى في غار لا يمكن
النزول إليه إلا بسلّم، و بعدما تناسى الناس أمره خرج من مخبئه داعيا الأعراش
الجبلية مثل ابني عيشة و بني فتح و أولاد عسكر و بني عافر إلى الجهاد، و بدأ البعض
يستمعون إليه، و لكن بحذر. و نظرا لخوف أعيان المنطقة من تكرار تجربة ابن الأحرش
الأولى، تطوع بعضهم و ذهب إلى الجزائر و أخبر الداي بما يجري في أعراش المنطقة و
لهذا سارع هذا الأخير و كتب إليهم رسالة يحثهم فيها على القضاء على الداعية الجديد.
و الرسالة تتظمن معلومات تاريخية هامة، أولها أنها تشير إلى الاتصالات التي أعيدت
بين أعيان المنطقة و قمّة السلطةفي الجزائر، كما تشير إلى مخلّفات ثورة ابن
الأحرشسنة 1803م في المنطقة، و قد طلب الأعيان من الداي العفو على ضابط المدفعية
دونالي الذي فرّ من الجزائر و قدّم مساعدات هامة لابن الأحرش، كما نلاحظ أن رسالة
الأعيان لم تشر إلى قضية الذي يدعي بأنه ابن أخ ابن الأحرش و الذي يتجول بين أعراش
و عشائر الناحية.

و لذلك السؤال المطروح كيف وصلت أخباره إلى الداي و طلب
منهم استعمال الحيلة للقبض عليه. و يبدوا من هذا الغموض أن أعراش المنطقة مختلفة
حوله بين مؤيد و معارض، و لهذا لم يتعرضوا لقضيته أثناء مكاتبتهم الداي، و كذلك طلب
هذا الأخير من الأعيان استعمال حيلة للقبض عليه، و يعد هذا الاستنتاج بمثابة
الإجابة على السؤال الذي طرحناه سابقا. و تعدّ رسالة الداي الذي خصّ فيها بالإسم سي
محمد أمقران تدعيما له، لأنه من الذين يريدون القضاء على الذي يدعي بأنه ابن أخ ابن
الأحرش، و لذلك بعث بسرعة بمجموعة من الفرسان و في أيديهم رسالة الداي لتترصد
تحركاته داخل العشائر التي تأويه فقتلوه، و بعد التخلص منه عاد الهدوء إلى المنطقة
و استمر حتى دخول الفرنسيين سنة 1839م هذا ما يتعلّق بالثورة الوحيدة في المنطقة
خلال العهد العثماني، أما ما قبلها فتعدّ المنطقة النواة الأولى للعهد العثماني،

فكانوا يشاركون بحماس في الدفاع عنها كلّما تعرضت حدودها البحرية أو البرية
للغزو الخارجي حسب ما تعرضنا له سابقا. و أكبر دليل على ذلك المقاومة الشديدة ضدّ
الغزو الفرنسي سنة 1664

المصدر: كتاب تاريخ منطقة جيجل قديما و حديثا

علي خنوف

 

أضف تعليق

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑