ياسف سعدي:وريدة مداد انتحرت ولم تستشهد


2014_Yacef_Saadi_02_2014_490332359يواصل المجاهد ياسف سعدي في هذه الحلقة حديثه عن مسيرة كفاحه ونضاله في صفوف جيش التحرير الوطني إبان الاستعمار الفرنسي، حيث يكذب ويفند تفنيدا قاطعا ما تردد بخصوص قيادة الشهيد العربي بن مهيدي لـ”المنطقة الحرة” قبله، ولم يكتف بهذا فحسب بل جزم أن الشهيد العربي بن مهيدي لم يحمل السلاح يوما ولم يطلق رصاصة على المستعمِر في حياته، كما يؤكد أن وريدة مداد انتحرت ولم تستشهد، بالاضافة الى تفاصيل أخرى مثيرة.

كيف كنتم تتواصلون فيما بينكم؟

كنا نتواصل من خلال الرسائل التي كنا نتركها لبعضنا البعض في المحلات والمتاجر، بعد أن اتفقتُ معهم على ذلك، كما كنا نترك السلاح في محلات بيع الخضر والفواكه، وهكذا تمكنا من تنظيم أنفسنا والعمل بهذه الطريقة، كما كنا نترك رسائل التعليمات في تلك المحلات، وإذا ما كان الأمر يتطلب اللقاء فيما بيننا فإننا نلتقي، وكنا نحضر للهجومات التي نشنها على مختلف مراكز العدو من خلال وضع مخطط لتلك المواقع وتصويرها والنظر في إمكانية مساعدة الجزائريين الذين يعملون في الثكنات العسكرية الفرنسية.

وأذكر أن عبان رمضان وسويداني بوجمعة نفذا تفجيراً بأحد مراكز الاستعمار الفرنسي في بوفاريك بمساعدة ضابط في الجيش الفرنسي، ولأنه كان في عطلة في ذلك اليوم لم يُكتشف أمره، وبعد إتمام المهمات كانوا يلتقون في الشريعة من أجل تقييم الهجوم الذي نفذوه ضد العدو الفرنسي. فرنسا لم تكن تنتظر ذلك اليوم وانطلاق شرارة الثورة في كامل أنحاء التراب الوطني كان بمثابة الصفعة التي وجهناها لها.

وبعد تصاعد العمليات الفدائية في العاصمة، غيّرت فرنسا إستراتيجيتها لمحاربة الثورة وإجهاضها من خلال تقسيم جيوشها على مختلف أنحاء التراب الوطني وهذا ما أضعف شوكتها.

قامت فرنسا بإرسال المظليين لمحاربتكم والقضاء على الحركة الثورية في العاصمة.. كيف تعاملتم مع الموقف؟

فرق المظليين كانت تحت قيادة “ميترون”، الذي كان في ذلك الوقت وزيراً للعدل الفرنسي، والذي أعطى أوامر بقتل كل من يلقى القبض عليه، وهو الذي أعطى أوامر بإعدام الكثير من المجاهدين والثوار الذين كانوا معروفين في ساحة القتال في ذلك الوقت.

مثلا؟

كانت من بينهم شخصيات في الخارج وأخرى على التراب الوطني، أولهم الشهيد زبانا المعروف بشهيد المقصلة، وبعدها توسعت العملية لتشمل أشخاصا آخرين من بينهم مجاهدون كانوا في سجن سركاجي من الذين نفذوا عمليات ناجحة وتسببوا في إلحاق أضرار كبيرة بفرنسا وكانت الأولية في الإعدام لمن ألحقوا بها أكثر الأضرار، وقد أصدرت السلطات الاستعمارية هذه الأوامر تحت ضغط وتهديدات “الإقدام السوداء”.

لماذا ركزتم كفاحكم على تفجير المحلات؟

لأن عدد سكان القصبة والعاصمة عموماً كان قليلا مقارنة بالمعمّرين، ولذا كنا مثل الذبابة التي “تقرص وتهرب”، وكنا عندها نقوم بتفجير مقهى أو “ميلك بار”.

مؤكد أن السلطات الاستعمارية كانت ترد على تلك التفجرات التي كانت تصفها بسلوكات “متمردين” و”قطاع طرق”، أليس كذلك؟

هذا صحيح، هذا ما كانت فرنسا تسعى إلى نشره وترسيخه في الخارج، وحتى في أوساط الجزائريين، كانت الأقدام السوداء تهدد سلطات بلادها بالرد على تلك الهجومات أو إثارة الفوضى ولهذا أعطى وزير العدل الفرنسي أوامر بإعدام كل من يلقى القبض عليهم أو كل من يقوم بعمليات فدائية، كما فعلوا بزبانا وهو أول من أعدم، وقمنا بالرد على إعدام زبانا باغتيال 21 فرنسياً.

ولم تتوقف وحشية الاستعمار الفرنسي عند هذا الحد بل كانت تجمع الجزائريين من أطفال ونساء وشيوخ وتنقلهم في شاحنات وترميهم في البحر من أماكن عالية، وكنا نثأر من خلال العمليات الفدائية التي كنا نقوم بها، وكانت السلطات الاستعمارية الفرنسية ترد هي الأخرى بعمليات أخرى لتنتقم لضحاياها.

كيف كنتم تباشرون تلك الهجومات؟

عندما نقرر ضرب أو تفجير مكان أو جهة، نكلف شخصا بالقيام بجولة لاستكشاف الموقع، ودراسة إمكانية الهروب بعد تنفيذ التفجير وإمكانية إخفاء السلاح أو الأداة التي استعملها في الهجوم، وفي حال إذا ما كانت العملية كبيرة، فإننا نسخر لها عددا معتبرا من الجنود وهكذا نضع مخطط الهجوم.

من كان يقود “المنطقة الحرة” أي الجزائر العاصمة قبلك؟

لا أحد، وأنا أول من تولى قيادة “المنطقة الحرة”.

ولكن يقال إن العربي بن مهيدي هو الذي قاد “المنطقة الحرة” في البداية؟

هذا الكلام لا أساس له من الصحة، فأنا أول من قاد المنطقة الحرة ولكن كثيرين هم الذين أصبحوا يدّعون بأنهم كانوا أول من قاد العاصمة، وهو نفس ما نلاحظه اليوم من تسابق العديد ممن لم تكن لهم أدنى علاقة بالثورة إلى التبجُّح بإنجازاتهم إبان حرب التحرير رغم أنهم لم يفعلوا شيئاً.

لعبت دورا كبيرا في زعزعة السلطات الاستعمارية في بمنطقة العاصمة؟

استعملت عقلي وحنكتي والحمد لله، ورغم ما تعرضتُ له من سجن، وجسدي شاهد على الرصاصات التي اخترقته، إلا أنني والحمد لله مازلت هنا لأنقل رسالة رجال الثورة الذين استشهدوا في سبيل أن تنعم هذه الأجيال بالحرية. إن الإستراتيجية التي انتهجناها في محاربة العدو الفرنسي كانت وراء الرعب الذي أصاب فرنسا منا، فالعمليات الفدائية الكثيرة التي كنا نقوم بها أرهقت الاستعمار الفرنسي.

ما هو الشعور الذي كان ينتابك بعد الفراغ من المهمات الثورية التي كنت تشرف عليها أو تنفذها؟

شعورٌ يميزه الفرح بالنظر إلى ما تلحقه هذه العمليات من خسائر بالمستعمر العدو، ولكن من جهة أخرى كنت أبكي عندما أرى أشلاء وأعضاء البشر من ضحايا تلك التفجيرات متناثرة على الأرض، وهذا ما حدث لي عندما خططتُ لتفجير “كازينو دو لاكورنيش” الذي كان يتردد عليه الفرنسيون، والذي تكفل فيه شاب من تيزي وزو يدعى “امخلف” بوضع القنابل بداخله بعد إقناعه بذلك، وأجهشتُ بالبكاء بعد التفجير لأنني أصبت بالرعب وأنا أشاهد أشلاء الضحايا مترامية في المكان خاصة وان التفجير خلف عددا كبيرا من الضحايا، ولكن كنا ملزمين بفعل هذا لنجبر فرنسا على الخروج من أرضنا ومغادرة بلدنا.

تراجع نشاطكم الثوري بعد السياسة التي انتهجتها فرنسا لمحاربتكم، هل لـ”الحركى” دور في الخسائر التي ألحقها بكم العدو؟

بالتأكيد، ولكني أفضل أن لا أخوض في هذا الموضوع لأنني سآتي على ذكر أشخاص لا أريد أن أحرجهم أو أحرج ذويهم، وقد يتسبب الأمرُ في حرب كلامية بيني وبينهم.

ولكنك لست مطالبا بتسمية هؤلاء الأشخاص؟

بعد الوشايات التي حدثت، ألقت السلطات الاستعمارية القبض على عدد من المسؤولين في جبهة التحرير، وتعرضوا للتعذيب قبل أن يُقتلوا خاصة في إضراب الثمانية أيام.

على ذكرك لإضراب الثمانية أيام، كنت من بين المنظمين لهذا الحدث، أليس كذلك؟

كان ذلك من 28 جانفي 1957 الى 4 فيفري نفس السنة.

أنت من نظمتها؟

نعم، على مستوى العاصمة فقط.

كيف شرعت في التحضير لذلك؟

جاء العربي بن مهيدي إلى العاصمة بعد أن أرسلته لجنة التنسيق والتنفيذ للتحقيق في قضية القنابل التي كنا نستعملها في التفجيرات، واستفسر في البداية بخصوص إن كنا نحن من يصنع القنابل التي كنا نستعملها في التفجيرات؟ فأخذته إلى بيت جميلة بوحيرد، حيث كانت تصنَّع المتفجرات والقنابل في المخبر، وأذكر أنني أشرت إليهم وقلت له: هذا هو الفريق الذي يصنع القنابل، وكان من بين الفريق شابات وشبان، وقمت بتقديمه لهم ولكنني لم أخبرهم بأنه العربي بن مهيدي وأخبرتهم فقط أنه مبعوث لجنة التنسيق والتنفيذ للتحقيق في قضية صناعة القنابل، وإن كنا نحن فعلا من يصنعها أو جماعة الحزب الشيوعي، لأن اللجنة كانت ترفض مساهمة الحزب الشيوعي في الثورة، وكنت أكلف فريقا آخر بشراء المواد التي نستعملها في صناعة القنابل، وفرح كثيرا عندما تأكد أن تلك القنابل من صنعنا وليس من صنع أي طرف آخر.

وبعد الجولة التي قادته في مختلف أرجاء القصبة فضل بن مهيدي البقاء بها خاصة وأنه يصعب التعرف عليه بها لكثرة سكانها، وخصصت له عددا من الملاجئ ليقيم بها، وكلفت الطفل عمر بمرافقته في الطريق في ذلك الوقت وبقي بها إلى أن قرر السفر مع بقية الجماعة الذين اختاروا السفر إلى تونس أو المغرب.

وبعد أن تفطنت السلطات الاستعمارية إلى مكانه، اعتقلوه بضواحي “تيليملي” بالعاصمة، لقد اقتحمت السلطات الاستعمارية المكان واعتقلته.

من خطط لذهاب العربي بن مهيدي إلى المكان الذي ألقي عليه القبض به، ومن كان وراء الوشاية التي حصلت ضده، ولماذا لم يُلق القبض على الآخرين ممن كان سيلتحق بهم ويسافر معهم؟

القصة طويلة ولو رويتها لك، فستحصلين على مادَّة لتأليف كتاب كامل.

مهما كانت القصة طويلة فنحن بحاجة لسماعها إذا أمكن؟

السلطات الاستعمارية قبضت على العربي بن مهيدي بعد الوشاية التي حدثت في ذلك الوقت، عندما سمعنا بأن هيئة الأمم المتحدة ستتحدث عن الثورة الجزائرية بقينا ننتظر دورنا؛ أي الوقت الذي سنتحدث فيه عن الجزائر. بقينا ننتظر، وجاء العربي بن مهيدي وكان في ذلك الوقت يقيم عند الباشاغا بوطالب في القصبة.

من هذا هو الباشاغا بوطالب؟

كان نائباً في البرلمان الفرنسي، ولكنه كان يؤمن بأفكار جبهة التحرير الوطني، ورفض مغادرة القصبة والسكن في مكان لآخر، كما أنه كان يقول دائما إنه ينحدر من سلالة الأمير عبد القادر، كان يدعم الثورة ويوفر لنا الأكل والشرب ويخفينا في بيته، كما أنه كان ينقل إلينا أخبار العدو الفرنسي والمخططات التي كان ينجزها ضدنا، وليس هذا فحسب بل عثرت السلطات الاستعمارية على قنابل في بيته.

نعود إلى ظروف القبض على الشهيد العربي بن مهيدي؟

جاء العربي بن مهيدي رحمه الله في ذلك الوقت وحدثني عن قرب تطرق هيئة الأمم المتحدة إلى القضية الجزائرية وعن الإضراب الذي كنا نفكر في تنظيمه لإسماع صوت القضية الجزائرية للرأي العام العالمي، فقلت له: متى؟ قال: ربما بقيت ثمانية أيام، فقلت له: ثمانية أيام مدة طويلة، واقترحت أن نقلص مدة الإضراب إلى ثلاثة أيام، لأن فرنسا ستستغل الفرصة وتزرع عساكرها في كل مكان وتضغط على الجزائريين حتى تبرهن لهيئة الأمم المتحدة أن مطالب الجزائريين منفصلة عن مطالب جبهة التحرير الوطني، وأنهم يساندون فرنسا.

وفي اليوم الموالي التقيت العربي بن مهيدي، وقد أحضر لي 10 ملايين سنتيم من أجل دعم السكان خلال فترة الإضراب، نظرت إلى المبلغ وقلت له: هل تعتقد أن هذا المبلغ يكفي سكان العاصمة؟ القصبة فقط يعيش فيها 80 ألف نسمة فكيف سيكفي المبلغ للعاصمة كاملة؟ فقال لي “دبّر راسك”، ولأنني كنت ملزما بتوفير الأكل للسكان، فكََّرت في الاستعانة بالفنانين فذهبت إلى الإذاعة الوطنية، وطلبت مقابلة فضيلة الدزيرية وفريدة صابونجي وغيرهما من الفنانات اللائي وبمجرد رؤيتهن لي ارتعدن من الخوف فقلت لهن: لا تخفن فأنا بحاجة فقط لمساعدتكن، أنا بحاجة الى أربعين امرأة من أجل توزيع وصل لأن في وقتنا فقط المرأة هي التي بإمكانها أن تدخل البيوت بدون أي مشكل، وقامت تلك الشابات بتوزيع تلك الوصولات على كل العائلات المحتاجة حتى تتمكن من الحصول على ما تحتاجه من أطعمة، وطلبت من كل أصحاب المحلات الالتزام بتوزيع نصف سلعها على العائلات المحتاجة دون مقابل.

كيف كان رد فعل فرنسا إزاء الإضراب؟

ما قامت به فرنسا في حقنا لا يتصوّره العقل ولا يخطر ببال؛ فقد قامت بزرع 60 ألف جندي في العاصمة لتكسير الإضراب حتى يقولوا لهيئة الأمم المتحدة إن مطالب جبهة التحرير الوطني في واد ومطالب الشعب في واد آخر، وكانت فرنسا تعتقل كل من تجدهم في الشارع وتنقلهم الى مختلف المراكز المخصصة للتعذيب، وأملك قائمة بكل تلك الأماكن وأرشيفاً آخر يتجاوز أرشيف وزارة المجاهدين، كما أن المجاهدة وريدة مداد انتحرت في تلك الأحداث.

لكن المعروف أن وريدة مداد استشهدت، فكيف تقول الآن إنها انتحرت؟

لا.. وريدة مداد كانت جميلة جدا، ولأن الفرنسيين أرادوا انتهاك عرضها فضلت أن تنتحر وينتهي أمرها على أن يُهتك عرضها.

من هم القادة الذين اعتقلتهم فرنسا في الإضراب؟

القائمة طويلة وأكثر من 150 مجاهد معروف.

هل كان من بينهم العربي بن مهيدي؟

لا أبدا؛ فالعربي بن مهيدي لم يطلق رصاصة طيلة حياته كما أسلفت، ولم يكن مسؤولا عني، وكنت أعمل لوحدي في “المنطقة الحرة” لأن باقي القادة هربوا.

أضف تعليق

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑